قصة بائعة الورد
كنت قد انتهيت توا من شرح الآثار الموجودة بقاعة مقبرة توت عنخ آمون بالمتحف المصري وعلي سبيل الراحة لي و للفوج السياحي أيضا, أعطيتهم ثلاثون دقيقة جولة حرة, بدوني لمن أراد التجوال بشكل حر ورؤية يعض الآثار الأخرى التي لم يتسع وقت الجولة لزيارتها.
و كنت قد اتفقت مع الفوج علي أن تكون نقطة الالتقاء خارج المتحف عند البوابة الخلفية في تمام الساعة الرابعة حتى يتثنى لنا الانطلاق في الموعد المحدد لتناول وجبة الغداء ثم زيارة معرضين للبردي و آخر للعطور, كم كنت اكره إصرار شركات السياحة علي زيارة تلك البازارات فمعظم السياح أو كما يُطلق عليهم "الزبائن"لا يشترون تلك الأشياء ليس فقط لأن معظمهم قد زار مصر لأكثر من مرة و ليس فقط لأن ميزانيتهم محدودة ومحسوبة مسبقاً و لكن أيضا لأن الأمر مُتعلق و بشكل أساسي بعلم "دوافع الشراء" فهم لا يشترون إلا وفقا لمنظومة معقدة و أتحدث هنا عن الجنسية الألمانية فقبل اتخاذ قرار الشراء يجري الكمبيوتر المعقد داخل رأس كل منهم عملية حسابية معقدة تشمل احتساب الوزن الزائد في حقيبة رحلة العودة بالطائرة وهل تتناسب تلك القطعة التذكارية مع الديكور العام للشقة وهل يمكن توفير هذا البند من الإنفاق واستبداله بشيء آخر أكثر أهمية !!
نعم تلك هي الحقيقة التي توصلت إليها بعد احتكاك مباشر و لسنوات طويلة من العمل في مجال الإرشاد السياحي, بالطبع غابت تلك الحقائق عن الكثيرين من أصحاب شركات السياحة الذين يصرون وبشكل فج ومبالغ فيه علي عمل تلك:"الوقفات" وزيارة تلك البازارات: ورق و حجر و عطور !! الورق هي بازارات بيع الورق البردي و الحجر هي بازارات بيع التحف و المصنوعات التذكارية المصنوعة من الحجر و العطورهي بازارات لبيع العطور المًقلدة ، وان كان لا يوجد مجال للاستغناء عن تلك الزيارات لأن المرشد يحصل علي عمولة خاصة من مبيعات تلك البازارات في حالة شراء الفوج السياحي بعض من تلك المنتجات .
لم تكن تلك المجموعة تبشر بأي نوع من المبيعات فمعظمهم قد ناهز الأربعين والخمسين عاماً والطقس حار جدا وهم بالكاد يتحركون.. وللحق.. فالرحلة متعبه لهم, خاصة وأنهم مستيقظون منذ الصباح الباكر لزيارة الأهرامات والمتحف المصري بالإضافة لزيارة إشارات المرور الكثيرة بقاهرة المعز!!.
بدأت مجموعات منهم في التوافد علي نقطة الالتقاء المُحددة في انتظار الحافلة التي ستقلنا إلي المطعم المتفق عليه لتناول طعام الغذاء, كانت نقطة الالتقاء خلف المتحف تطل علي شارع جانبي يؤدي إلي نهر النيل رأيت فتاة في مقتبل العمر تحمل باقة من الورد البلدي وهي تعبر الطريق متجهةً إلي ...وما أن اقتربت حتى تقدمت نحوي في أدب قائلة : والنبي يا بيه كلم الزباين يشتروا مني...
قاطعتها : ابعدي بس بعيد شوية عشان ظابط السياحة جاي ..دول لا هيشتروا ولا هيعملوا اي حاجة !! وابتسمتُ ضاحكا: دول ما بيشتروش إلا بقواعد و كتالوج!!!
صاحت: الأرزاق في أيد ربنا والرزق مالوش لا ميعاد ولا قواعد.
تعجبت من قدرتها علي الجدال واختزالها للإيمان بالغيب والرزق في تلك الجملة البسيطة.
حقيقة الأمر أني لم أشأ أن يُنفق هؤلاء السياح الميزانية البسيطة التي معهم علي الورد رغبة مني في أن يشتروا من البازارات التي سنزورها أو حتى أن يعطوني "تيبس" أو "بقشيش" في نهاية الجولة وهي احدي مساوئ مهنة الإرشاد السياحي في مصر ففي أثناء الدراسة يتم إعداد الطلاب علي أنهم سفراء يعكسون الوجه الحضاري لمصر و لكن واقع الأمر أن المرشد السياحي,حقيقةً, رزقه غير مَعلوم و غير مُنتظم و قائم بشكل أساسي علي العمولات و البقشيش ..للأسف..
أفقت من شرودي علي إلحاح تلك الفتاة مرة أخري: يا بيه كلمهم بس.. أي حاجة هتيجي من وشك السمح ده مبروكة إن شاء الله ...ربنا بيبارك في القليل....
تأملتها بتمعن هذه المرة :فتاه في مقتبل العمر ربما لم تصل إلي العشرين من عمرها تعلوها مسحه من الجمال الهادئ المخلوط بالإجهاد والتعب والفقروإن لم يغب عنها خفة الدم والروح.
وعلي طريقة أفلام الكارتون الشهيرة ظهر فوق رأسي ملا ك هزلي الشكل يأمرني بمساعدتها وعلي الجانب الآخر شيطان ساذج الهيئة يأمرني بالبخل و عدم مساعدتها ... تركت الاثنين يتصارعان قائلا: اطحنوا في بعض!! و طردت الهواجس من رأسي متأسياَ بمقوله تلك الفتاه : أن الرزق يأتي بدون قواعد أو كتالوج و فعلا قررت مساعدتها...
-طب .. بُصي استني لغاية ما يتجمعوا كلهم عشان اكلمهم لك مرة واحدة لو واحد منهم بس اشتري كلهم هيقلدوه.. خليكي بس ورايا عشان الظابط ما يشوفكيش..
كان قد فات الأوان و بالفعل توجه أمين الشرطة إليها بمزيج من السباب و الانفعال.. كنت اعرفه.. فللأسف من مساوئ تلك المهنة أيضا أن علي المرشد السياحي أن يزلل جميع العقبات التي قد تواجهه ومنها: تدخل تلك الفئة من الشرطة و محاولتهم ابتزاز المرشد أو طلب "المعلوم" استنادا إلي أي مخالفه مزعومة للقانون مثل: أن ركن الأتوبيس السياحي هنا ممنوع مثلاً أوغير ذلك والقواعد معلومة للجميع :"أبجني تجدني" و ما أن : تكسر عينه مره واحده بذلك المعلوم أو الإكرامية فلن يستطيع ان يرفع تلك العين فيك مرة أخري و بالفعل قلت له بلهجة حازمه مبتسما ابتسامة مصطنعة: كله تمام يا عَمنا ..سيبها دي تبعي وأخرجت "المعلوم" و ناولته اياة في شكل ورقة مالية مطوية في راحة يدي وكأنني أتبادل معه التحية باليد فأخذها مسرعاً متظاهرا بالصياح علي ماسح الأحذية في الجهة المقابلة..
و بالفعل تجمع الفوج و صعد الجميع إلي الأتوبيس السياحي و بقيت انا و بائعة الورد حتى صعد آخر سائح منهم، كنت اعلم أن هذا مخالف لقواعد العمل المهني وغيرمسموح بصعود أي شخص آخر إلي الأتوبيس السياحي إلا أنني أشرت إليها بأن تصعد و صعدتُ خلفها .. نظر إلي سائق الحافلة بارتياب كنت اعلم ما يدور بذهنه, فأشرت إليه مداعباً طبقة التدين البسيطة والسطحية بداخله: الله في عون العبد مادام العبد في عون اخيه..غلبانه يا أخي و بتسترزق ..و قبل ان يقول شيئا كنت قد التقطت الميكروفون داخل الأوتوبيس ولا اعلم وإلي يومنا هذا كيف استطعت الارتجال بتلك الكلمات: "ها قد أتت حفيدة كليوباترا لتحييكم وعلي طريقتها الخاصة!! .. سألتم كثيراً كيف تبدو المرأة المصرية وهل مسموح لها بالعمل؟ ها هي شابة جميله وتعمل في أرق و أجمل المجالات... مجال الورود... الوردة الواحدة بيورو واحد فقط .. شمه واحده من الورد المروي بنهر النيل تمنح القوة للرجال و الرقة و الرومانسية للنساء!!!
وقفت بائعة الورد مذهولة فبالطبع لم تفهم كلمة واحدة مما قلت أو لماذا يضحك الجميع فنظرت إلي مشدوهة ونقلت بصرها بيني و بين الفوج السياحي...
ما ان انتهيت من تلك الجملة الارتجالية و بلغة ألمانية سليمة حتى ضجت الحافلة بالضحك والاستحسان و تباري الجميع في الشراء .. أمرت الفتاه بسرعة, بالسير داخل الممر بين الكراسي لتعطي كل واحد منهم ومنهن وردة و توليت انا عملية جمع النقود منهم وإعطائهم الباقي, لأنه من المستحيل عليها ان تستطيع احتساب الفارق أو المتبقي لكل منهم نظرا لشكل عملة اليورو الغريب عليها آنذاك.. و صدق حدثي فما أن انتهيت حتى ناولتها جميع النقود قالت لي ببساطة: دول ايه دول يطلعوا كام يعني؟100 جنيه؟؟ : ضحكت قائل: يطلعوا كتير اوي روحي اي مكتب صرافه من اللي قدام المتحف في شارع التحرير وغيريهم من هناك مصري وخللي بالك من نفسك ...نزلت من الحافلة و هي تدعوا لي و للسائق بل للزبائن أنفسهم بحج بيت الله الحرام!!! .. أغلق سائق الحافلة الباب الكهربائي ورائها في عصبية و انطلق قائلا : مش إحنا كنا اولي بالفلوس دي يا باشا!!
قلت له : يا أخي سيبها علي الله.. الأرزاق بيد الله
حقيقة لا اعرف ما الذي حدث ..فقد انطلقت الحافلة تشق طريقها و بدأ الجميع في استنشاق ذلك الورد البلدي.. تزامن ذلك مع صوت موسيقي خافته لأم كلثوم عبر سماعات الأوتوبيس والهواء البارد المنبعث من مكيف الهواء يداعب الجميع... عبرنا كوبري قصر النيل .. سرَت حالة من الرومانسية بين السياح.. فمنهم من تبادل قُبله خاطفة مع رفيقته و منهن من وضعت الوردة في شعرها او في فتحة صدر الفستان,, بدت المجموعة و كأنها قادمة من هاواي او جزر تاهيتي!!
بعد الغداء توجهنا إلي البازارات المتفق عليها و علي غير المتوقع اشتري الجميع بلا استثناء من المعروضات المختلفة و حصلتُ علي عمولة كبيرة وليس هذا فقط بل حصلتُ أنا والسائق علي "بقشيش" كثير في نهاية الرحلة ..حقيقة لم أجد تفسيرا لذلك إلا أن الله في عون العبد مادام العبد في عون أخيه...
في اليوم التالي جاءتني نفس الفتاه بائعة الورد و في نفس الميعاد تقريبا قلت لها : أهلا يا وش الخير عملتي ايه؟؟ غيرتي الفلوس:؟؟
انا جايه اقولك: ربنا يكرمك و يسعدك و يديك الخير كله..و...
قاطعتها ربنا يكِرمك و يوفقك .. انتي منين؟؟
تجاذبنا أطراف الحديث و لشهور متتالية كانت تأتيني و اذا لم يشتري منها احد من السياح كنت أعطيها أنا اللي فيه النصيب..و حقيقة كنت أستمتع بالحديث معها فبالرغم من صغر سنها إلا أنها كانت تتميز بخفة ظل و ببساطة تريح النفس و ثقة غير عادية بالله ..
سألتني في براءة شديدة ذات مرة: ممكن تتجوز واحدة من دول؟
وأشارت بطرف عينها إلي واحدة من السياح حولنا.
- ماحدش يعرف نصيبه فين ..
- قاطعتني قائله بلهفة طفوليه وكأنها تريد إقناعي بوجهة نظرها وإبعاد عقلي عن التفكير في هذا الموضوع:
- دول زي الورد.. بس من غير ريحه طعمه مُر و كله شوك!!!
ضحكت كثيرا من تقييمها للأمور القدرية بتلك البساطة والبراءة.
- غيرت مجري الحديث قائلا :عاملة إيه في شغلك؟
- والله الدنيا مش قد كده و محدش سايب حد في حاله.
- ازاي يعني ؟خير؟
- عالكورنيش علي طول عربيات بتقفلي واللي يفتح الباب واللي يعاكس و حاجه قلة أدب..واللي عايز قلة الأدب اكتر من اللي عايز يشتري.
- و بتعملي ايه مع النوعية دي؟
- هو فيه حاجة بعد الشرف؟ ده ربنا هو اللي بيقوي الواحدة مننا والله...
انقطعت عن زيارة القاهرة لفترة متحولاً الي مدينة الأقصر وأسوان و لم اعد أتذكرها.. إلي أن عُدت بعد فترة مع فوج سياحي آخر إلى المتحف و لدهشتي أتت الي نفس المكان .. فرحت كثيرا لرؤيتها بدت مضطربة و ليست علي طبيعتها ..بادرتها :
- ازيك و ازي أمك و اخواتك؟
- ردت باقتضاب بخير يا بيه ..تعيش و أخرجت ورقه ماليه كبيره أرتني اياها قائله دي تعمل كام مصري دي ؟
تناولت الورقه منها و تفحصتها: لأ دي ملغية..
نظرت في رعب شديد : يعني إيه ملغية؟
- دي عُملة قديمة وملغيه يعني البنك بتاعهم لغاها ..ما يغركيش الاصفار الكتير اللي عليها و...
- اختطفت الورقة من يدي.. ذُهلت جدا.. فلم اعتد منها علي سلوك كهذا..وافقت من ذهولي علي عويلها و صراخه و لطمها علي خديها - يا ريتني مُت ..ياريتني مت.. ياولاد الكلب يا كفرة...
-خير مالك؟؟ في اية؟؟ ؟؟ لم تعرني اهتماما وانطلقت مسرعة تجري باتجاه الكورنيش مرة أخري ولم تلتفت إلي ندائي عليها وابتلعتها حركة الزحام هناك و سرعان ما انطلقت مع الفوج السياحي الخاص بي و أنا شارد الذهن وتسارعت في عقلي الأسئلة؟ ما الذي قد حدث لها؟ و من أين حصلت علي تلك الورقة المالية؟؟ أيمكن أن يكون هناك من نصب عليها في باقة الورد و أعطاها تلك الورقة المالية الملغية؟ ام تكون قد ....قد تساهلت مع احدهم تحت ضغط الحاجة و الفقر و حدث ما حدث نظير تلك الورقة المالية الملغاة؟؟
أفقت من شرودي علي صوت احد السياح و هو يسألني عن شيئا ما.. لا اذكره الآن ...
لم أقابل بائعة الورد ثانية ... سألت عنها كثيرا أمين الشرطة قرب المتحف أو حتى السائقين المترددين بانتظام علي المتحف المصري لم يعرف أيا منهم أين ذهبت أو بالأحرى أين اختفت....
تمت
إقرأ أيضا: خواطر+18 - 6 قصص قصيرة
شارك الموضوع وتابعنا على الفيسبوك (عوالم منسية) أو تويتر أو اشترك بالقائمة البريدية ليصلك كل جديد على بريدك |للتعليق: اضغط على "إضافة/إرسال تعليق" أسفل المقالة |
للمراسلة: enbee.info@gmail.com
People also ask
ما هي قصة مسلسل بائعة الورد؟
ما اسم لميس في مسلسل بائعة الورد؟
كم عدد حلقات المسلسل التركي بائعة الورد؟
ما اسم مسلسل بائعة الورد بالتركي؟
People also search for
مسلسل بائعة الورد مدبلج الحلقة 1
مسلسل بائعة الورد مدبلج كامل
مسلسل بائعة الورد مدبلج قصة عشق
مسلسل بائعة الورد مدبلج فرفش
مسلسل بائعة الورد مدبلج الحلقة 1 قصة عشق
مسلسل بائعة الورد مدبلج الحلقة الأخيرة
مسلسل بائعة الورد مترجم الحلقة 1
نهايه مسلسل بائعة الورد
تعليقات